اخر خبرالمقالات

الشيخ جمال فراج يكتب : رمضان شهر الانتصارات في خطبة الجمعة

الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفرُهُ ونؤمنُ بهِ ونتوكلُ عليهِ ونعوذُ بهِ مِن شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، ونشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له وأنَّ سيِّدَنَا مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ أمَّا بعدُ:

أولًا: انتصاراتٌ في شهرِ البركاتِ.

إنَّ شهرَ رمضانَ شهرُ الانتصاراتِ، فمع مرارةِ الجوعِ والعطشِ ترتفعُ درجةُ التقوى للهِ، ويضرعُ الجنودُ والمقاتلون إلى اللهِ بالدعاءِ؛ لأنَّهم في هذه الحالِ أقربُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، فهذه غزوةُ بدرٍ أعظمُ المعاركِ، يتركُ حبيبُنَا  الصفوفَ ويتوجَّهُ إلى ربِّهِ متضرعًا مبتهلًا داعيًا سائلًا واقفًا على أعتابِهِ لائذًا ببابِهِ!!!

فعَن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ  إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ  الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [ الأنفال: 9] فَأَمَدَّهُ اللهُ بِالْمَلَائِكَةِ، قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ؛ فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ، فَقَالَ: «صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ»، فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ”.(مسلم).

وحين رأىَ رسولُ اللهِ  جندَ قريشٍ قالَ: ”اللّهُمّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا ، تُحَادّك وَتُكَذّبُ رَسُولَك، اللّهُمّ فَنَصْرَك الّذِي وَعَدْتنِي ، اللّهُمَّ أَحِنْهُمْ الْغَدَاةَ.” (سيرة ابن هشام). فكانَ النصرُ حليفَ المسلمين.

ثم كثرتْ الفتوحاتُ في رمضانَ نتيجةَ الدعاءِ والإخلاصِ والتقوى الذي لازمَ هؤلاء الفاتحين .

 ففي رمضانَ مِن السنةِ الثامنةِ مِن الهجرةِ كان فتحُ مكةَ، وفي هذه الغزوةِ انتصرَ الإيمانُ، وعلا القرآنُ، وفازَ حزبُ الرحمنِ، ودُحِرَ الطغيانُ، وكُسرتْ الأوثانُ، وخابَ حزبُ الشيطانِ.

وفي رمضانَ عام (658هـ).كانتْ معركةُ عينِ جالوت التي أعزَّ اللهُ فيها المسلمين بقيادةِ الملكِ المظفرِ قطز، الذي لجأَ إلى اللهِ بالدعاءِ والتضرعِ يقولُ عنهُ ابنُ كثيرٍ في البدايةِ والنهايةِ: “ولمَّا رأىَ عصائبُ التتارِ، قال للأمراءِ والجيوشِ: لا تقاتلُوهم حتَّى تزولَ الشمسُ وتفيءُ الظلالُ وتهبُّ الرياحُ، ويدعُو لنَا الخطباءُ في صلاتِهِم”. واستجابَ اللهُ دعاءَهُ وهزمَ المغولَ ووقعُوا بين يديهِ ما بينَ قتيلٍ وجريحٍ وأسيرٍ، بل وقعَ بين يديهِ قائدُ المغولِ فقتلَهُ تنكيلاً بهِ، جزاءَ إجرامهِ في قتلِ المسلمين.

وليس حربُ العاشرِ من رمضانَ، السادسِ من أكتوبر عام 1973م مع الكيانِ الصهيونيِ عنَّا ببعيدٍ، فكانتْ كلمةُ اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ مدويةً تزلزلُ صفوفَ العدوِّ، وتهزُّ أرضَ المعركةِ، حتى كان النصرُ حليفَ المسلمين.

هؤلاءِ الأبطالُ الشجعانُ عرفوا أنَّ اللهَ معهم، وهو وحدَهُ يعزُّ مَن يشاءُ ويذلُّ مَن يشاءُ، وينصرُ مَن يشاءُ، فلجأُوا إليهِ وحدَهُ واعتمدُوا عليهِ وسألُوه أنْ ينصرَهُم فاستجابَ لهم لما رأَى صدقَهُم وإخلاصَهُم، ومكَّنَ لهم وأعزَّهُم ونصرَهُم…فأين نحنُ مِن هؤلاء ؟!

ثانيا: عواملُ النصرِ في الشهرِ الفضيلِ.

 أيُّها المسلمون: تعالَوا بنَا لنقفَ مع حضراتِكُم مع عواملِ النصرِ عامةً، وفي رمضانَ خاصةً ومنهَا:

العاملُ الأولُ: الدعاءُ: فالدعاءُ أقوى عواملِ النصرِ لدَى المسلمين عبرَ العصورِ والقرونِ، وهذا واضحٌ مِن خلالِ المواقفِ المذكورةِ آنفًا، ومِمَّا يدلُّ على أنَّ النصرَ يُستنزلُ بالدعاءِ ما قالَهُ أسدُ بنُ عبداللهِ القسرِي أميرُ خراسانَ في قتالِهِ للفرسِ: ” إنَّه بلغنِي أنَّ العبدَ أقربُ ما يكونُ إلى اللهِ إذا وضعَ جبهتَهُ للهِ، وإنِّي نازلٌ وواضعٌ جبهتِي، فادعُوا اللهَ واسجدُوا لربِّكُم، وأخلصُوا لهُ الدعاءَ، ففعلُوا، ثمَّ رفعُوا رؤوسَهُم، وهم لا يشكُّونَ في الفتحِ”.

وهكذا كان عقبةُ بنُ نافعٍ في غزواتِهِ في فتحِ بلادِ المغربِ وغيرِهَا، فكان يتوجَّهُ إلى اللهِ بالدعاءِ عندَ الشروعِ في معاركِهِ، ويصادمُ العدوَّ في شجاعةٍ مذهلةٍ، كما ذكرَهُ عنهُ أهلُ السيرِ، ثمَّ يكتبُ اللهُ لهُ النصرَ المبينَ.

يقولُ القاضِي ابنُ شدَّادٍ: “وكان صلاحُ الدينِ إذا سمعَ أنَّ العدوَّ قد داهَمَ المسلمينَ خرَّ إلى الأرضِ ساجدًا للهِ، داعيًا: اللهُمَّ قد انقطع أسبابِي الأرضيةُ في نصرةِ دينِكَ، ولم يبقَ إلّا الإخلادُ إليكَ، والاعتصامُ بحبلِك، والاعتمادُ على فضلِك، أنتَ حسبِي ونعمَ الوكيل”. ويقولُ: “ورأيتُهُ ساجدًا ودموعهُ تتقاطرُ على شيبتهِ ثمَّ على سجَّادتِه، ولا أسمعُ ما يقولُ، ولم ينقضِ ذلك اليومُ إلاّ ويأتيهِ أخبارُ النصرِ على الأعداءِ، وكان أبدًا يقصدُ بوقفاتهِ الجمع، لاسيمَا أوقاتُ صلاةِ الجمعةٍ تبركًا بدعاءِ الخطباءِ على المنابرِ، فربَّمَا كانتْ أقربَ إلى الاستجابةِ”.

لهذا كان الدعاءُ في الغزوِ مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا مع المجاهدينَ في أرضِ المعركةِ، وقد بوَّبَ الإمامُ الترمذيُّ في جامعهِ (بابٌ في الدعاءِ إذا غزَا) وأوردَ تحتَهُ ما رواهُ أنسُ بنُ مالكٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال: كان رسولُ اللهِ  إذا غزَا قالَ:” اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي؛ وَأَنْتَ نَصِيرِي؛ وَبِكَ أُقَاتِلُ ” . ( الترمذي).

العاملُ الثاني: ملازمةُ العبادةِ: فاللهُ عزَّ وجلَّ ربطَ السببَ بالمسببِ، فالعبادةُ سببُ النصرِ والغلبةِ والتمكينِ في الأرضِ للمسلمين، قال تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا }. (النور: 55).

ولقد أخبرنَا النبيُّ  أنَّ كلَّ شيءٍ يقاتلُ معنَا حتى الحجرِ والشجرِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ:” لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ؛ إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ . ” (البخاري ومسلم واللفظ له).

فالعبادةُ والتمسكُ بالكتابِ والسنةِ والإيمانُ العميقُ، أهمُّ وسائلِ النصرِ والأمنِ والاستقرارِ والتمكينِ في الأرضِ.

العاملُ الثالثُ: تحقيقُ التقوَى: لأنَّ الغايةَ مِن الصيامِ هي التقوى، كما قالَ سبحانَهُ وتعالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] .

فالصيامُ مِن أكبرِ أسبابِ التقوَى، ففيهِ امتثالٌ لأمرِ اللهِ تعالِى واجتنابٌ لنهيهِ، فالصائمُ يتركُ ما أحلَّهُ اللهُ لهُ مِن الأكلِ والشربِ والجماعِ ونحوهَا مِمّا تميلُ إليهِ نفسُهُ، متقربًا بذلك إلى اللهِ يرجُو بتركِهَا ثوابَهُ تعالَى.

إنَّ الصائمَ وقتَ صيامِهِ ترتفعُ عندَهُ درجةُ التقوَى والإيمانِ؛ لاجتماعِ أمهاتِ العباداتِ مِن صلاةٍ وصيامٍ وقراءةٍ للقرآنِ وإنفاقٍ وبرٍّ وإحسانٍ وغيرِهَا مِن الطاعاتِ، فترقَى عندَهُ الروحُ الإيمانيةُ والمعنويةُ، مِمّا يجعلُهُ يضحِّي بحياتِه وبكلِّ غالٍ ونفيسٍ مِن أجلِ إعلاءِ كلمةِ اللهِ تعالَى.

العاملُ الرابعُ: الاصطفافُ والاجتماعُ: حيثُ كانُوا جميعًا على قلبِ رجلٍ واحدٍ لحمايةِ أراضِينَا ومقدساتِنَا، بعيدينَ عن التفرقِ والاختلافِ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ  قَالَ :” الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ , وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ … “. ( أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه).

إنّها دعوةٌ لجميعِ أطيافِ المجتمعِ إلى الاجتماعِ والاعتصامِ والوحدةِ، فالاجتماعُ والاتفاقُ سبيلٌ إلى القوةِ والنصرِ، والتفرقُ والاختلافُ طريقٌ إلى الضعفِ والهزيمةِ، وما ارتفعتْ أمةٌ مِن الأممِ وعلتْ رايتُهَا إلّا بالوحدةِ والتلاحمِ بينَ أفرادِهَا، وتوحيدِ جهودِهَا، والتاريخُ أعظمُ شاهدٍ على ذلك.

ثالثًا: الانتصارُ على النفسِ والشيطانِ.

إذا كانَ اللهُ قد أنعمَ عليكُم بنعمةِ الأمنِ والأمانِ والاستقرارِ ونحن في دارِ أمنٍ وأمانٍ، فإنَّ أعظمَ نصرٍ نحققُهُ في هذا الشهرِ الفضيلِ هو الانتصارُ على النفسِ والشيطانِ، لأنَّ الحربَ معهما قديمةٌ متجددةٌ إلى قيامِ الساعةِ، فهذا إبليسُ اللعينُ أقسمَ بعزةِ اللهِ أنَّهُ ساعٍ في إغواءِ بنيِ آدمَ إلى يومِ الدينِ: { قاَلَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المْخْلَصِينَ}. (ص: 83) . وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ؛ عَنْ النَّبِيِّ  أَنَّهُ قَالَ: ” قَالَ إِبْلِيسُ: أَيْ رَبِّ !! لَا أَزَالُ أُغْوِي بَنِي آدَمَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ . قَالَ: فَقَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ : لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي ” . (أحمد والحاكم وصححه).

فأعداءُ الإنسانِ كثيرون، كما قالَ الشاعرُ :

إِنِّي ابْتُلِيتُ بِأَرْبَعٍ مَا سُلِّطُـوا ………… إِلَّا لِشِـدَّةِ شَقْوَتِي وَعَنَــائِي

إِبْلِيسُ وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي وَالْهَوَى …….. كَيْفَ الخْلاَصُ وَكُلُّهُمْ أَعْدَائِي

 لذلك ينبغِي على العبدِ أنْ يغتنمَ فرصةَ تقييدِ الشياطين في شهرِ رمضانَ، حتى يظفرَ بالنصرِ عليهم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ: ” إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ؛ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ؛ وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ ” . ( مسلم) . ” قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: قولُهُ: (وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ )، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَأَنَّ تَفْتِيحَ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَتَغْلِيقَ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ وَتَصْفِيدَ الشَّيَاطِينِ عَلَامَةٌ لِدُخُولِ الشَّهْرِ وَتَعْظِيمٌ لِحُرْمَتِهِ، وَيَكُونُ التَّصْفِيدُ لِيَمْتَنِعُوا مِنْ إِيذَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَالتَّهْوِيشِ عَلَيْهِمْ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمَجَازَ وَيَكُونَ إِشَارَةً إِلَى كَثْرَةِ الثَّوَابِ وَالْعَفْوِ، وأن الشياطين يقل إغواؤهم وإيذاؤهم فيصيرون كَالْمُصَفَّدِينَ، وَيَكُونُ تَصْفِيدُهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ دُونَ أَشْيَاءَ وَلِنَاسٍ دُونَ نَاسٍ…وَمَعْنَى صُفِّدَتْ: غُلِّلَتْ وَالصَّفَدُ بِفَتْحِ الْفَاءِ الْغُلُّ بِضَمِّ الْغَيْنِ، وَهُوَ مَعْنَى سُلْسِلَتْ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى”.(إكمال المعلم بفوائد مسلم).

 فعلَى الصائمِ أنْ يجاهدَ نفسَهُ، وأنْ يقلعَ عن الذنوبِ والمعاصي التي اعتادَ عليها قبلَ شهرِ رمضانَ، فمن كان مُصِرًّا على قطيعةِ الرحمِ، أو أكلِ الحرامِ ؛ أو السرقةِ، أو الزنا، أو تركِ الصلاةِ … أو غيرِ ذلك مِن المحرماتِ !! عليه أنْ يسرعَ بالتوبةِ والإنابةِ والرجوعِ إلى اللهِ، حتى يتنصرَ على نفسهِ والشيطانِ وهذا هو أعظمُ النصرِ في هذا الشهرِ الفضيلِ، لأن الشيطان يقعد لابن آدم على طرق الخير كلها ، فعَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ: ” إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ: أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ، وَدِينَ آبَائِكَ، وَآبَاءِ أَبِيكَ؟ ” قَالَ: ” فَعَصَاهُ، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: أَتُهَاجِرُ وَتَذَرُ أَرْضَكَ، وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ ” قَالَ: «فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ» قَالَ: ” ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: هُوَ جَهْدُ النَّفْسِ، وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقَسَّمُ الْمَالُ ” قَالَ: «فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَمَاتَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّةٌ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ». (النسائي وأحمد والطبراني بسند قوي).

واعلمْ أنَّ الشيطانَ يسعَى جاهدًا على إفسادِ صلاتِكَ وعبادتِكَ، فاسعَ أنتَ جاهدًا على الانتصارِ عليهِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ: ” إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لاَ يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى “.(متفق عليه).

كمَا عليكَ أنْ تجاهدَ نفسَكَ وتحاسبَهَا ولا سيّمَا في هذا الشهرِ الفضيلِ، ” قال مالكُ بنُ دينارٍ- رحمه اللّهُ-: رحمَ اللّهُ عبدًا قال لنفسهِ: ألستِ صاحبةَ كذا؟ ألستِ صاحبة َكذا؟ ثمّ زمَّهَا، ثمّ خطَّمَهَا، ثمّ ألزمَهَا كتابَ اللّهِ- عزَّ وجلَّ- فكانَ لهَا قائدًا”.  « محاسبةُ النفسِ لابنِ أبي الدنيا ».

وهكذا كان هذا الشهرُ الفضيلُ شهرَ الانتصاراتِ على الأعداءِ، وشهرَ الانتصار على النفسِ والشيطانِ.

نسألُ اللهَ أنْ يتقبلَ صيامنَا وصالحَ أعمالِنَا، وأنْ ينصرنَا على أنفسِنَا وعلى الشيطانِ،

وأنْ يحفظَ مصرَنَا مِن كلِّ مكروهٍ وسوءٍ،،،

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى