اخر خبرالمقالات

الشيخ جمال فراج يكتب .. فضل العشر الأواخر من رمضان والتماس ليلة القدر فيها .. في خطبة الجمعة

فضلُ العشرِ الأواخرِ.. أعمالُ العشرِ الأواخرِ مِن رمضانَ.. بينَ عشرِ رمضانَ وعشرِ ذي الحجةِ

الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفرُهُ ونؤمنُ بهِ ونتوكلُ عليهِ ونعوذُ بهِ مِن شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، ونشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له وأنَّ سيِّدَنَا مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ أمَّا بعدُ:

أولًا: فضلُ العشرِ الأواخرِ

للعشرِ الأواخرِ مِن رمضانَ فضلٌ عظيمٌ عندَ اللهِ تعالى، وقد ذكرَهَا اللهُ في قولِهِ:{وَالْفَجْرِ؛ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (الفجر: 1 ؛ 2)، وقد ذهبَ كثيرٌ مِن المفسرينَ إلى أنَّها العشرُ الأواخرُ مِن رمضانَ؛ لذلك كان يجتهدُ فيها النبيُّ  بالطاعةِ والعبادةِ والقيامِ، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ”(متفق عليه). قال الإمامُ ابنُ حجرٍ:” أيْ سهرَهُ فأحياهُ بالطاعةِ وأحيا نفسَهُ بسهرِهِ فيهِ؛ لأنَّ النومَ أخو الموتِ، وأضافَهُ إلى الليلِ اتساعًا؛ لأنَّ القائمَ إذا حيي باليقظةِ أحيا ليلَهُ بحياتِهِ.”(فتح الباري)، وشدُّ المئزرِ كنايةٌ عن بلوغِ الغايةِ في اجتهادهِ عليه السلامُ في هذه العشرِ.

وعَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَت: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِا”( مسلم) يقولُ الإمامُ النوويُّ:” يستحبُّ أنْ يزادَ مِن الطاعاتِ في العشرِ الأواخرِ مِن رمضانَ، واستحبابُ إحياءِ لياليهِ بالعباداتِ .”

وقد سارتْ قوافلُ الصالحينَ تقفُ عندَ العشرِ وقفةَ جدٍ وصرامةٍ، تمتصُّ مِن رحيقِهَا وتنهلُ مِن معينِهَا، وترتوي مِن فيضِ عطاءاتِهَا، وتعملُ فيها ما لا تعملُ في غيرِهَا، حتى صنعتْ هذه العشرُ رجالًا ترَبُّوا على الطاعةِ والإيمانِ. يقولُ أبو عثمان النهدِي: «كانُوا يعظمُون ثلاثَ عشراتٍ: العشرُ الأولُ مِن محرمٍ، والعشرُ الأولُ من ذي الحجةِ، والعشرُ الأواخرُ مِن رمضانَ». ومِن شدةِ تعظيمِهم لهذه الأيامِ كانوا يتطيبُون لها ويتزينُون، قال ابنُ جريرٍ: كانوا يستحبُون أنْ يغتسلُوا كلَّ ليلةٍ مِن ليالِي العشرِ الأواخرِ، وكان النخعيُّ يغتسلُ كلَّ ليلةٍ!

وكان ثابتُ البنانِيُّ وحميدُ الطويلُ يلبسانِ أحسنَ ثيابِهِمَا ويتطيبانِ ويطيبانِ المسجدَ بالنضوحِ في الليلةِ التي تُرجَى فيها ليلةُ القدرِ. قال ثابتٌ: وكان لتميمِ الداريِّ حلةٌ يلبسُهَا في الليلةِ التي تُرجَى فيها ليلةُ القدرِ.

هكذا كانوا تعظيمًا لهذه العشرِ، وهكذا كانوا اجتهادًا في العبادةِ وانقطاعًا لها في هذه الليالي المباركاتِ.

فأين نحنُ مِن قومٍ كانوا أنضاءَ عبادةٍ وأصحابَ سهرٍ؟!

انظروا إلى امرأةِ حبيبِ العجمِي -وهو أحدُ السلفِ- تقولُ لهُ في الليلِ: قد ذهبَ الليلُ وبينَ أيدينَا طريقٌ بعيدٌ، وزادٌ قليلٌ، وقوافلُ الصالحينَ قد سرتْ ومضتْ، ونحن بقينَا.

فهذه المرأةُ لم تنشغلْ بطعامٍ ولا بشرابٍ، ولا بوصفاتِ إعدادِ الأطعمةِ، ولا بالموضاتِ وما ينزلُ خصيصًا في العشرِ الأواخرِ مِن الملابسِ والموضاتِ، لقد شغلتُهُم المشاغلُ الإيمانيةُ، وألهتُهُم عن هذه الأمورِ الدنيويةِ.

يا نائمَ الليلِ كم ترقدُ ……………. قُمْ يا حبيبِي قد دنَا الموعدُ

وخُذْ مِن الليلِ وأوقاتِهِ …………… وِرْدًا إذا ما هجعَ الرُّقَّدُ

مَن نامَ حتى ينقضِي ليلُهُ ………….. لم يبلغْ المنزلَ أو يزهدُ

قُلْ لذوِي الألبابِ أهلِ التقَى …………. قَنطَرَةُ الَعْرضِ لكُم موعِدُ

وهكذا الفرقُ بينَ حالِنَا في رمضانَ وحالِ سلفِنَا الصالحِ، وكفى بالواقعِ المعاصرِ على ذلك دليلًا !!!

ثانيا: أعمالُ العشرِ الأواخرِ مِن رمضانَ.

 أيُّها المسلمون: إذا أردتُم الفوزَ بهذا الشهرِ الكريمِ، ولا سيّمَا العشرُ الأواخرُ منهُ، فإنِّي أقدمُ لكُم برنامجًا إيمانيًّا يشتملُ على أعمالِ هذه العشرِ، حتى نلحقَ بقوافلِ الزاهدينَ العابدين، وتتمثلُ هذه الأعمالُ فيمَا يلي: 

أولًا: قيامُ ليالِيهَا: اقتداءً بالنبيِّ  كمَا في عنصرِنَا السابقِ، وينبغِي إيقاظُ الأهلِ والأولادِ لاغتنامِ هذه الليالِي المباركةِ. قالَ سفيانُ الثورِي رحمَهُ اللهُ: أحبُّ إليَّ إذا دخلَ العشرُ الأواخرُ أنْ يتهجدَ بالليلِ، ويجتهدَ فيهِ، ويُنهضَ أهلَهُ وولدَهُ إلى الصلاةِ إنْ أطاقُوا ذلك، فعن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ : ” رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ أَبَتْ، نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، ورَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ أَبَى، نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ.”(أبوداود).

وفي الموطأِ أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ كان يُصلِّي مِن الليلِ ما شاءَ اللهُ أنْ يُصلِّي، حتى إذا كان نصفُ الليلِ أيقظَ أهلَهُ للصلاةِ، يقولُ لهُم: الصلاةَ الصلاةَ، ويتلُو هذه الآيةَ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132].

ثانيًا: الاجتهادُ في نهارِهَا: فيخصّ جميعَ زمانِ العشرِ الأواخرِ مِن رمضانَ ليلِهِ ونهارِهِ بمزيدٍ مِن الاجتهادِ والعبادةِ. ” قال الشافعيُّ رحمَهُ اللهُ: أستحبُّ أنْ يكونَ اجتهادُهُ في نهارِهَا كاجتهادِهِ في ليلِهَا، وهذا يقتضِي استحبابُ الاجتهادِ في جميعِ زمانِ العشرِ الأواخرِ ، ليلِهِ ونهارِهِ ، واللهُ أعلمُ.” (لطائف المعارف) .

ثالثًا: الاعتكافُ: فهو مِن أعظمِ العباداتِ في هذه العشرِ، وقد كان  حريصًا على سنةِ الاعتكافِ في رمضانَ كلَّ عامٍ، وقد استنَّ بهذه السنةِ أزواجُهُ والصالحونَ مِن بعدِهِ ، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:” أَنَّ النَّبِيَّ  كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ؛ ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ” (متفق عليه)؛ لذلك عندمَا تُؤدِّي سنةَ الاعتكافِ أخِي الصائمُ فإنَّكَ تُحي سنةً نبويةً كريمةً مهجورةً منذُ أزمنةٍ طويلةٍ، فعن الإمامِ الزهرِي رضي اللهُ عنه قال:” عجبًا للمسلمين! تركوا الاعتكافَ مع أنَّ الرسولَ  ما تركَهُ منذُ قدِمَ المدينةَ حتى قبضَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ”.

والاعتكافُ المُستحبُّ ليس لهُ وقتٌ محددٌ، ولك أنْ تجمعَ بينَ عملِكَ واعتكافِكُ، فيكونُ اعتكافُكَ ليلًا وعملُكَ نهارًا، فهو يتحققُ بالمكثِ في المسجدِ مع نيةِ الاعتكافِ طالَ الوقتُ أم قصرَ حتى ولو لحظة، ويُثابُ ما بقِيَ في المسجدِ، فإذا خرجَ منهُ ثمَّ عادَ إليهِ جددَ النيةَ إنْ قصدَ الاعتكافَ، فعن يعلَى بنِ أميةَ قال: إنِّي لأمكثُ في المسجدِ ساعةَ ما أمكثُ إلّا لأعتكف.(فقه السنة للشيخ سيد سابق).

ويكفِي المعتكفُ أنَّهُ تركَ الدنيا وشهواتِهَا وأقبلَ على اللهِ بقلبهِ وجوارحِه، واقفًا على بابِهِ متعلقًا بأعتابِهِ، يدعوهُ ويبتهلُ إليهِ راجيًا رحمتَهُ ورضوانَهُ. قال عطاءُ -رحمَهُ اللهُ-:” مثلُ المعتكفِ كرجلٍ له حاجةٌ إلى عظيمٍ، فجلسَ على بابِهِ ويقولُ: لا أبرحُ حتى تقضِي حاجتِي، كذلك المعتكفُ يجلسُ في بيتِ اللهِ ويقولُ: لا أبرحُ حتى يُغفرَ لِي”

رابعًا: قراءةُ القرآنِ: فعليكَ أنْ تكثرَ مِن قراءةِ القرآنِ الكريمِ ليلًا ونهارًا، فعن ابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنهما : ” أنَّ جبريلَ عليهِ السلامُ كان يلقَى النبيَّ  في كلِّ ليلةٍ مِن رمضانَ فيدارسهُ القرآنَ.” (البخاري ومسلم) .

 وكان السلفُ الصالحُ يقرؤونَ القرآنَ في رمضانَ في الصلاةِ وغيرِهَا، وكان قتادةُ -رحمَهُ اللهُ- يختمُ القرآنَ في كلِّ سبعِ ليالٍ مرةً، فإذا دخلَ رمضانُ ختمَ في كلِّ ثلاثِ ليالٍ مرةً، فإذا دخلَ العشرُ ختمَ في كلِّ ليلةٍ مرةً.

خامسًا: كثرةُ الدعاءِ: فللصائمِ عندَ فطرِهِ دعوةٌ لا تُردُّ، قال : «إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَا تُرَدُّ»[ابن ماجة والطبراني]. وكان عبدُ اللهِ بنُ عمرو بنُ العاص إذا أفطرَ يقولُ: ” اللهُمَّ إنِّي أسألُكَ – برحمتِكَ التي وسعتْ كلَّ شيئٍ – أنْ تغفرَ لِي “.

سادسًا: تحرِّي ليلة القدرِ: فقد كان مِن هديهِ  في العشرِ الأخيرةِ مِن رمضانَ أنَّهُ يتحرَّى ليلةَ القدرِ، وقالَ في ذلك:” مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ.”(البخاري)، فيا سعادةَ مَن نالَ بركتهَا وحظيَ بخيرِهَا، ويُستحبُّ الإكثارُ مِن الدعاءِ فيهَا، فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا قَالَ: ” قُولِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّى”.(الترمذي وابن ماجة ).

سابعاً: الإكثارُ مِن الجودِ: فشهرُ رمضانَ يمتازُ بأنَّهُ شهرُ المواساةِ والتراحمِ والجودِ والكرمِ والتكافلِ بينَ المسلمين، ولهذا السببِ نفسِهِ ” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  أَجْوَدَ النَّاسِ ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ ، فَـلَرَسُولُ اللَّهِ  أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ” (رواه البخاري ). قال ابنُ رجب – رحمه اللهُ تعالى -: “وكان جودُهُ  كلُّهُ للهِ عزَّ وجلَّ وفي ابتغاءِ مرضاتِهِ، فإنَّهُ كان يبذلُ المالَ إمَّا لفقيرٍ أو محتاجٍ، أو ينفقهُ في سبيلِ اللهِ، أو يتألَّفُ بهِ على الإسلامِ مَن يقوّى الإسلام بإسلامِه… وكان يؤثرُ على نفسِه وأهلِه وأولادِه، فيُعطِي عطاءً يعجزُ عنهُ الملوكُ مثلُ كسرى وقيصر، ويعيشُ في نفسِه عيشَ الفقراءِ، فيأتِي عليهِ الشهرُ والشهرانِ لا يُوقَدُ في بيتهِ نارٌ، وربَّما ربطَ على بطنِه الحجرَ مِن الجوعِ. أ.ه

فعليكُم بالجدِّ والاجتهادِ في هذه العشرِ بالقيامِ وقراءةِ القرآنِ، والذكرِ والدعاءِ والصدقاتِ وسائرِ القرباتِ، فهذه فرصةٌ لن تعوضَ ولن تعودَ، وقبلَ أنْ تندمَ ولا ينفعُ الندمُ!! {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ؛ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(المؤمنون: 99 ؛ 100)؛ وقد وقفَ الحسنُ البصريُّ على جنازةِ رجلٍ فقالَ لصاحبٍ لهُ يعظُهُ: تُرى هذا الميتَ لو رجعَ إلى الدنيا ماذا يصنعُ؟! قال: يكثرُ مِن الطاعاتِ، قالَ لهُ الحسنُ: قد فاتتْهُ فلا تفتْكَ أنتَ!!

 أقولُ لكُم أيُّها المسلمون: قد فاتتْ مَن كان قبلَكُم، والفرصةُ ماثلةٌ أمامَكُم فماذَا أنتُم فاعلون؟!!

ثالثًا: بينَ عشرِ رمضانً وعشرِ ذي الحجةِ.

علمنَا فيمًا سبقَ فضلَ العشرِ الأواخرِ مِن رمضانَ، وأنَّ الرسولَ  كان يُحيهَا بالقيامِ والقرآنِ، وكان  يتحرَّى ليلةَ القدرِ لشرفِهَا وفضلِهَا، قال ابنُ كثيرٍ في تفسيرِهِ عن مجاهدٍ: ” أنَّ النبيَّ  ذكرَ رجلًا مِن بنِي إسرائيلَ لَبسَ السلاحَ في سبيلِ اللهِ ألفَ شهرٍ، قال: فَعَجبَ المسلمونَ مِن ذلك، قال: فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ؛ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ؛ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } ( القدر : 1-3) التي لبسَ ذلك الرجلُ السلاحَ في سبيلِ اللهِ ألفَ شهرٍ ، فليلةٌ واحدةٌ خيرٌ مِن عبادةِ 83 سنةً مِن الأممِ الماضيةِ، فمَا بالُكَ لو صادفتْكَ ليلةُ القدرِ عشرينَ سنةً مثلًا.” وعَنْ الِإمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ:” إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ  أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَنْ لَا يَبْلُغُوا مِنْ الْعَمَلِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمْرِ؛ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ” ( موطأ مالك).

وفي مقابلِ ذلك هناك عشرٌ أخرى يُستحبُّ الإكثارُ فيهَا مِن الأعمالِ الصالحةِ، ألَا وهي العشرُ الأولُ مِن ذي الحجةِ. فقد أخرجَ البخاريُّ عن ابنِ عباسٍ، قال رسولُ اللهِ : ” ما مِن أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيها أحبُّ إلى اللَّهِ من هذِهِ الأيَّام يعني أيَّامَ العشرِ ، قالوا : يا رسولَ اللَّهِ ، ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ ؟ قالَ : ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ ، إلَّا رَجلٌ خرجَ بنفسِهِ ومالِهِ ، فلم يرجِعْ من ذلِكَ بشيءٍ .”

وقد سُئِلَ أحدُ العلماءِ، أيُّهمَا أفضل؟: عشرُ ذي الحجةِ أم العشرُ الأواخرُ مِن رمضانَ؟ فأجابَ: أيامُ العشرُ مِن ذي الحجةِ أفضلُ مِن أيامِ العشرِ مِن رمضانَ، والليالِي العشرُ الأواخرُ مِن رمضانَ أفضلُ مِن ليالِي عشرِ ذي الحجةِ. وإذا تأملَ الفاضلُ اللبيبُ هذا الجوابَ وجدَهُ شافيًا كافيًا، فإنَّهُ ليس مِن أيامِ العملُ فيهَا أحبُّ إلى اللهِ مِن أيامِ عشرِ ذي الحجةِ، وفيهَا يومُ عرفةَ ويومُ النحرِ ويومُ الترويةِ، أمَّا ليالِي عشرِ رمضانَ فهي ليالِي الإحياءِ التي كان رسولُ اللهِ  يحييهَا كلّهَا وفيها ليلةٌ خيرٌ مِن ألفِ شهرٍ.

نخلصُ مِن ذلك: أنَّ أيامَ العشرِ مِن ذي الحجةِ أفضلُ مِن أيامِ العشرِ مِن رمضانَ لاشتمالِهَا على أيامِ الترويةِ وعرفةَ والنحرِ، والليالِي العشرُ الأواخرُ مِن رمضانَ أفضلُ مِن ليالِي عشرِ ذي الحجةِ لاشتمالِهَا على ليلةِ القدرِ.

لهذا حثّنَا الرسولُ  على اغتنامِ مثلِ هذه النفحاتِ حيثُ قالَ: «إِنَّ لِرَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ مِنْهَا نَفْحَةٌ لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا».(الطبراني)، وقالَ أيضًا :” افْعَلوا الخَيْرَ دَهْرَكُمْ، وتَعَرَّضُوا لِنَفَحاتِ رَحْمَةِ اللهِ، فإنَّ للهِ نَفَحاتٍ من رحمتِهِ، يُصِيبُ بِها مَنْ يَشَاءُ من عبادِهِ، وسَلوا اللهَ أنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وأنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ “( أخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني بسند حسن).

فعلينَا أنْ نجتهدَ ونختمَ هذه العشرَ الأواخرَ مِن رمضانَ بالأعمالِ الصالحةِ؛ فالأعمالُ بالخواتيمِ، يقولُ الإمامُ ابنُ حجرٍ بعدَ ذكرهِ حديثَ اجتهادِ الرسولِ  في العشرِ:” وفي الحديثِ الحرصُ على مداومةِ القيامِ في العشرِ الأخيرِ إشارةٌ إلى الحثِّ على تجويدِ الخاتمةِ، ختمَ اللهُ لنَا بخيرٍ آمين .” ( فتح الباري).

نسألُ اللهَ أنْ يتقبلَ صيامنَا وصالحَ أعمالِنَا، وأنْ يحفظَ مصرَنَا مِن كلِّ مكروهٍ وسوءٍ،،،

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى