اخر خبرالمقالات

“الأستاذ” يكتب عن “الأستاذ” (هيكل وحماد ابراهيم):

كيف نجح هيكل فى تأسيس مدرســة الصحافة المسـئولة بالأهــــرام؟

هل صحيح أن هيكل يمثل مدرسة في الصحافة المصرية والعربية تفوقت على مدارس أقرانه في أخباراليوم مصطفى أمين، وروزاليوسف إحسان عبدالقدوس، والمصري اليوم أحمد أبوالفتح؟ وما هي الأدلة والشواهد على ذلك مهنيا وقيميا وانسانيا؟
وهل صحيح أن هيكل كان وطنيا قوميا يعمل لصالح مجتمعه المصري وأمته العربية وليس لمجده الشخصي فحسب؟ وما هي القيم التي يمكن استخلاصها من مدرسة هيكل الصحفية؟ وهل تصلح هذه القيم لممارسة الصحافة اليوم؟
وهل يمكن أن نتدبر ونتريث قبل إقرار عالمية هيكل وتجربته؟ فهل كان هيكل أول من قدم نموذج صحافة المعلومات بدلا من صحافة المقالات مطلع الخمسينات؟ وأول من صنع للصحافة سلطة فعلية تتجاوز حدود التأثير في الجماهير الى المساهمة أو قل المشاركة في صنع القرار؟ وهل كان هيكل نموذجا فريدا في علاقة الصحافة بالسلطة لم يتكرر في التاريخ البشري؟
وهل جعل هيكل للغة الصحافة سطوة حتى على مجمع اللغة العربية، فصار يعتمد تراكيبه الأهرامية وفقا لقاعدة “خطأ شائع خير من صحيح مهجور”
وهل كان هيكل أول من قدم نموذج الصحافة العسكرية حينما غطى حرب العلمين منتصف الأربعينات؟ ” وهل صحيح أن كل ما أحرزه الصحفي المصري والعربي من بداية الألفية حتى اليوم لا يرقى إلى ما قدمه هيكل في الصحافة الاستقصائية منذ مطلع الخمسينات؟
وهل يعتبر هيكل أول من أسس الصحافة التاريخية التي نفتقدها حتى الآن؟ وكيف تحول هيكل من مخبر إلى مؤرخ ينفذ إلى الأسرار والوثائق وشهود العيان ويقوم بتحليلها وتركيبها وتفسيرها واستخلاص دلالاتها؟
وما الدليل على أن هيكل صعد بالأهرام إلى واحدة من أفضل عشر صحف عالمية؟ وهل يمكن استلهام تجربة هيكل أو الأهرام في بعث الحياة للصحافة المصرية من جديد؟
وهل كان من الأفضل أن يطالع هيكل قبل وفاته الإجابة على هذه التساؤلات عبر المقال الذي كتبه الدكتور حماد ابراهيم في عدد أهرام الجمعة أمس؟ وما الجديد الذي يقدمه هذا للأجيال الصحفية الحاضرة، وأساتذة وباحثي الصحافة في مؤسساتها التعليمية؟ وكيف يقودك المقال الى عقد مقارنة بين صحافة هيكل في الخمسينات والستينات وما آلت اليه الصحافة اليوم رغم التقدم المذهل في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات عامة؟
وما علاقة الدكتور حماد ابراهيم الأستاذ بكلية الإعلام جامعة القاهرة بالأستاذ هيكل؟ وهل يمكني وصف المقال بأن “الأستاذ” يكتب عن” الأستاذ”؟
الدكتور حماد ابراهيم: واحد من أهم المثقفين والكتاب والباحثين المصريين والعرب، وكان هيكل وجيله من الكتاب ضمن دراستي ماجستير ودكتوراه أعدهما حماد ابراهيم عن علاقة الصحافة بالسلطة وانعكاسها على سياسات التحرير، ثم صورة الولايات المتحدة الأمريكية في صحافة عبدالناصر والسادات، وفرز خلالهما الكتاب الوطنيين عن الكتاب الذين غيروا جلودهم من الماركسيين والشيوعيين خاصة، والدكتور حماد ابراهيم حاليا أستاذ متفرغ بكلية الإعلام جامعة القاهرة، قلدوه جيل الرواد “الاستاذية” وهو “معيد” فكلفوه بتدريس تمهيدي الماجستير منذ منتصف الثمانينات، وذيع صيته كأفضل متحدث وباحث وكاتب في شئون الصحافة وسياسات تحريرها والإعلام السياسي، وحماد ابراهيم يتطلب مني مقالا خاصا أو كتابا خاصا، فهو الذي استقبلني بالقاهرة في منتصف الثمانينات ورعاني وأكرمني وعلمني من القيم والبحث العلمي الكثير، ولا زلت أعتز بصداقته وأستاذيته

إذا كان من حق الأهرام أن تحتفل بالذكرى المائة لميلاد «الأستاذ» محمد حسنين هيكل رئيس تحريرها ورئيس مجلس إدارتها الأسبق ( 1957ـ 1974)، فإن واجبنا العلمى والمهنى والأخلاقى يحتم علينا أن نشارك مؤسستنا الصحفية العريقة «الاحتفال» بأهم كاتب استثنائى أنجبته مصر؛ نموذجا فى العطاء الصحفى والإعلامى والانضباط القيمى والمهنى والرقى الإنسانى، وقدمته لأمتها العربية والعالم رمزا فريدا للانتماء الوطنى والقومى والإبداع الفكرى والسياسى فى القرن العشرين .

هنا مقال تحليلى تحتمه ضرورات المناسبة والنزوعُ المنهجى والفكرى لكاتبها، فى أن يقدم للأجيال الشابة من الصحفيين إجابة عن سؤال رئيسى نراه مهما وهو : هل نجح مُحمَّد حسنين هيكل طوال سنى حياته المهنية فى أن يترك لزملائه وأبنائه وأحفاده ــ فى الأهرام وغيرها من المؤسسات ــ مدرسة فى العمل الصحفى والإعلامى ؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب، فإن هذا يستدعى بالضرورة الحاجة للإجابة عن أسئلة أخري: ما المعالم المميزة لهذه المدرسة؟ وما الدوافع التى قادت إليها ؟ ما النظام القيمى الذى حرص الأستاذ على أن يجعله «مرجعية» للممارسة الصحفية فى الأهرام؟ وما المهام التى يجب على الصحفيين الوعى بأهميتها ؟ وما الدروس المهنية التى يمكن استخلاصها من تجاربه وخبراته؟ وإلى أى مدى يمكن لهذه المدرسة أن تنال شغف الأجيال المعاصرة بثوابتها، وتحظى بالاستمرارية التى تستجيب تماما لنزوع الأستاذ التاريخى وولعه الخاص

بــ «استشراف المستقبل»؟

تنشأ المدارس فى المؤسسات الصحفية وغيرها من وسائل الإعلام حين يقترن تاريخ رئيس التحرير بكفاءة مهنية متقدمة، وخبرات عملية ثرية، ورصيد فكرى وثقافى خصب، وعلاقات عمل إيجابية تؤهله لأن ينقل للأجيال التالية من مرءوسيه «رؤيته» بشأن المهارات والقدرات التى ترتقى بالعمل وترتفع بمستواه، وينبههم باستمرار إلى « منظومة القيم» التى لا يجوز أن تغادر تفكيرهم بشأن «اختياراتهم» المهنية، ويولى عناية خاصة لفحص «الممارسات» التى تتسق مع «سياسة التحرير» وتصب فى خدمة «الأهداف» التى تعمل المؤسسة من أجلها، ويعى جيدا كيف يوظِّفُ رؤيته وما هو مهم من المهارات والقدرات والقيم والممارسات فى صياغة «الهوية المهنية » لمؤسسته التى تجسد «شخصيتها» الفريدة بين وسائل الإعلام .

وتزدادُ معالمُ المدارس الصحفية ثباتاً ورسوخا بفضل وعى رئيس التحرير بأن المدرسة التى يتطلع نحو تأسيسها لا تنشأ بالصدفة، وإنما تحتاج إلى «التخطيط» لبنائها، و«القصد» فى صياغة معالمها، و» المتابعة الدائمة «طلتطبيق قواعدها، و«التقويم المُبكِّر» لجوانب القوة والضعف فيها.

ولا تنشأ المدارس بالتقليد والمحاكاة اللذين يمثلان استنساخا لأصل لاترقي» الصورة» إلى مستواه، وإنما توجد وتترسخ معالمها فى ظل الحاجة إلى «التميز والرغبة فى الاختلاف» وتجنب التقليد والمسايرة لكثير مما هو سائد فى المؤسسات الصحفية وغيرها من وسائل الإعلام، والاجتهاد فى الانفتاح على المدارس الصحفية التى اقترن تاريخها بتجارب رائدة فى التحرير والإدارة على المستوى الدولي.

هيكل مع إبراهيم نافع ومرسى عطا الله وإحسان بكر و محمود عوض وسمير السروجى

وتزدهر المدارس الصحفية وتتقدم كلما تمتَّع رئيس التحرير بطابع إنسانى يُثرى دورَه فى نقل الخبرة والتأهيل المهنى الحديث للكوادر الجديدة، ويُقرّبُه من المندوبين والمحررين والمراسلين والكتاب، ويُعمِّقُ تفاعلَه معهم إلى الدرجة التى يطمئن فيها تماما إلى اقتناعهم الطوعى برؤيته المهنية واختياراته الفكرية وتوجهاته السياسية، ويسعد بحماسهم وقدرتهم على الترجمة العملية لكل ذلك فى غيابه قبل الحضور. وهذا كله – على الرغم من أهميته الشديدة – لا يكفي؛ مالم ينتبه رئيس التحرير جيدا إلى مستوى تفاعل هذه المدرسة التى ينشدها مع هموم المواطنين وأحلامهم وتصوراتهم بشأن واقعهم وما يجب أن يكون عليه مستقبلهم، والجهد الذى يبذله الجهاز التحريرى فى « التعبيرالأمين عن الثابت والمتغير» فى حياة المجتمع مما يشغل الرأى العام ويَمَسُّ احتياجاته الأساسية مَسَّا مباشرا أو غير مباشر؛ طالما أن الخبرة التاريخية لعلاقة وسائل الإعلام بالمواطنين تؤكد أن هذا هو السبيل الوحيد الذى يصعد بقدرة المدرسة الصحفية فى «التأثير» الذى قد يمهد لــ «نقاط التحول الإيجابية الكبري» فى تاريخ المجتمعات، ويضمن الفوز بثقة الجمهور، ويعزز مصداقية وسائل الإعلام.

وحين تتأمل «رؤيتنا» السابقة للجوانب الثلاثة بشأن نشأة المدارس الصحفية، وثبات معالمها، وازدهارها، تكتشف أنها زاخرة بكثير من «المعايير» التى يمكن الاحتكام إليها فى تقديم إجابات علمية ومهنية دقيقة عن التساؤلات التى أثرناها فى صدر هذا المقال

أولا: من الظواهر المثيرة للاهتمام فى تاريخ « الأستاذ « محمد حسنين هيكل أن كفاءته المهنية تجاوزت – إلى حد كبير – حدود وظيفته الصحفية. وهذا يجبرك على أن تمدَّ بصرك بعيدا عن حدود موقعه داخل المؤسسات الصحفية التى عمل فيها، وتنقل بينها.

فهو من ناحية «مندوب صحفى محترف «قضى فترة تكوينه المهنى الأولى 1942-1944 فى جريدة «الإيجبشيان جازيت» ــ التى كانت تصدرها شركة الإعلانات الشرقية ــ مساعد مخبر صحفى فى قسم الحوادث. ثم كان أول مصرى يغطى أخبار الحرب العالمية الثانية بالعلمين ، ورأس تحرير آخر ساعة خلفا لأستاذه محمد التابعى ، ثم تربع على عرش المحرر السياسى المتجول لأخبار اليوم حتى حصل على جائزة فاروق الأول ثلاث مرات وهو دون الخامسة والعشرين ، وفى العام 1957 صار رئيسا لتحرير الأهرام بترشيح من على باشا الشمسى عضو مجلس الإدارة. وفى كل المواقع التى تولاها لم يفرط فى لقبه الأثير – الجورنالجى

ومن ناحية ثانية هو «محقق صحفى بارز» بدا ذلك فى رسائله لأخبار اليوم عن الحرب الكورية وثورة مصدق فى إيران (إيران فوق بركان 1953) وفى هاتين القضيتين تتجلى مهارات هيكل فى مجال الصحافة الاستقصائية، ليثبت أنه فى نهاية الأربعينيات ومطلع الخمسينيات سبق الكثير من الإنتاج العلمي، حول هذا اللون من الصحافة، الذى جاء الاهتمام به مع بدايات القرن الحادى والعشرين فى العالم العربى لأسباب لا يتسع المقام لحصرها.

ومن ناحية ثالثة هو « مؤرخ جدير بالتقدير والاحترام» ؛ إذا كنت ممن يشغلهم «أمانة المؤرخ ودقته وحسه الوطني»، ويعجبك قدرته على التسلح بالوثائق الخفية التى تحمل سرا، وتكشف فسادا ، وتفضح خيانة ، وتجلى حقائق اجتهدت أطراف وجماعات ودول وأجهزة فى التعتيم عليها، ومحاولة الإبقاء عليها فى دائرة المسكوت عنها، ويصعب عليك إنكار موضوعيته ونزاهته وقدرته على أن يقودك فى المسار اللازم لاستخلاص المعانى والدلالات والدروس والعبر، وإصراره المبهر على أن يضع أمامك تشريحا لــ «لماضي» الذى تجهله بكل شخوصه وأحداثه وقضاياه، لعلك تشاركه إيقاظ الوطن؛ عساه ينتبه إلى صناعة «الحاضر» الذى يتجاوز أخطاء الماضى وخطاياه.

ومن ناحية رابعة هو «محللٌ سياسى بارعٌ وكاتبٌ وقاصٌّ مُبدع» يملك ناصية علوم السياسة ونظم الحكم المقارنة والعلاقات والمنظمات الدولية والنظريات والمناهج السياسية والقانون الدولي، ويعلم جيدا كيف يستثمرما انتهت إليه من اتجاهات حديثة فى تفسير الأحداث والظواهر السياسية العربية والدولية برؤى وتصورات جديدة لم يسبقه إليها أحد من كبار المتخصصين فى هذا المجال. ويتيح لك الفهم الأكثر شمولا لجوانب الحدث وأبعاده، ويمدك برؤية أكثر اتساعا تتجاوزالنقص والفصل والتجزيء ، ويحرضك على مشاركته إثارة التساؤلات والصبر عليه ومتابعة مساره وهو يعرض عليك أدق التفصيلات اللازمة لإجابات واقعية منطقية هادئة بحيث لا تجد مفرا من التسليم بما انتهى إليه. وهو الذى لا يكف عن تنبيهك إلى المتناقضات والمفارقات فى السياسات الخارجية والعلاقات الدولية، ويعير اهتماما خاصا لأن تعلم الكثير عن الأشخاص المؤثرين على المستوى الدولى والمؤسسات والأجهزة والدول ممن تضعهم الأحداث فى دائرة الضوء ، ويبتدع أسلوبا تصويريا خاصا ، يصف معه حقيقة كل هؤلاء، ويضعك أمامهم وجها لوجه حتى يراودك الشعور بأنك تعايش هؤلاء جميعا فى بيئاتهم، وتقف تماما على أفكارهم وظروفهم وسلوكياتهم بفضل ألفاظه المُعبِّرة ، وعباراته المُركَّزة، ورسائله المباشرة ، ومعانيه الواضحة ، وشواهده القوية ، وتصويره البليغ .

ومن ناحية خامسة هو» المثقف « الذى أدرك مبكرا حاجة الصحفى إلى « الأفكار والمعارف « التى تؤهله للكتابة الجيدة عن أحداث المجتمع وظواهره ومشاكله وقضاياه ، وتتيح له القدرة على انتاج معالجات أكثر جدية ورصانة وعمقا واحتراما لعقول القراء واحتياجاتهم وحقهم فى المعرفة. وما من شك فى أن غرامه الخاص بالتكوين الثقافى والفكرى المبكر هو الذى أتاح له الإفلات من ظاهرة «العداء للعلم والفكر» التى تنتشر فى أوساط عدد لا يستهان به من المندوبين والمحررين الذين تستغرقهم شواغلهم الحياتية الخاصة، ويسيئون فهم مسئولياتهم المهنية؛ فيقصرونها على الجوانب الحرفية التى تعنى بإجادة تحريرالأخبار والتقارير والحوارات والتحقيقات اعتمادا على المعلومات التى تم جمعها من المصادر البشرية التقليدية فقط، ولا يكترثون بالأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والدينية والثقافية والسياسية والفنية والتاريخية لما يجرى تكليفهم بتغطيته من الأحداث والظواهر والقضايا والمشكلات ، ويحرمهم من إنتاج إسهامات صحفية تتسم بالحيوية والأهمية. ويكفى فى هذا الصدد أن تتوقف أمام اهتمامه الخاص بتاريخ الإمبراطوريات وصراعات القوى وموازينها، وولعه بالتحليل الاجتماعى والاقتصادى والدينى والسيكولوجى والثقافى لحركة الدول والجماعات والأفراد على النحو الذى يتيح للقارئ « خدمة صحفية « تمتزج فيها المعلومات بالآراء والتصورات وتمثل « وثيقة « لجهد كاتب كبير لا تستغرقه « اللغة « التى هيمنت على الكثيرين من كتاب النصف الأول من القرن العشرين ، وينتبه كثيرا لقيمة « المضمون « الذى يقيم وزنا كبيرا لاحترام عقول القراء والاهتمام بحقوقهم.

ثانيا : ما من شك فى أن الكفاءة المهنية والفكرية التى اقترنت بحركة الأستاذ نحو العمل الصحفى فى العشرينيات من عمره، صارت فيما بعد القاعدة الصلبة لوعيه بأهمية التأسيس لمدرسة صحفية تجسد أفكاره وتستجيب لأحلامه وتستفيد من مناخ الصعود السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى الذى عاشته مصر إبان ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952 بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر ؛ التى أثارت الاهتمام بالمسئوليات السياسية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية اللازمة لبناء مجتمع يتحرر من قبضة الاستعمار، ويتحرك لمواجهته وتصفية جيوبه وقواعده، وينهض بدور حضارى فى مواقع مختلفة على خارطة الدوائر الثلاثة؛ الوطن العربى الكبير والقارة الإفريقية والعالم الإسلامي، وينشد لمواطنيه عدالة وحرية وتنمية شاملة واعتمادا على الذات واستقلالا وطنيا وأصالة حضارية ووحدة تضع العرب فى مكانة تتناسب مع تاريخهم وثقافتهم ونزوعهم المشروع نحو موقع متقدم على خارطة التطور الحضارى والإنسانى الدولي.

 

هيكل فى حوار مع إبراهيم نافع ومحمد سيد أحمد ويبدو فى الصورة النائب الأسبق د. محمد عبداللاه

فى هذه الأجواء سطع نجم محمد حسنين هيكل؛ الشاب (29 عاما) الذى كشفت كتاباته الأولى فى أربعينيات القرن العشرين عن «أستاذ كبير» يتقن حرق المراحل ويختزل الزمن؛ ليقفز مهنيا فوق الكثير من أقرانه الذين سبقوه إلى العمل الصحفى مثل مصطفى أمين (1914 ) و أحمد أبو الفتح (1917 ) وإحسان عبد القدوس (1919)، ويقدم نفسه للمجتمع «جورنالجيا» متفوقا فى الوقوف على أدق أسرار المجتمع ، «ومحققا» لا يباريه ــــ فى جمع المعلومات وتقصى الحقيقة والبحث عن مصادرها والوعى بخلفياتها ووضعها فى سياقها السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى الأوسع، والإمساك بدلالاتها وإضاءة معناها – زميل أو كاتب، و«مراسلا» يعرف طريقه لصُنَّاع القرار جيدا، ويملك «اللغة» التى تؤهله للتواصل و«المهارات» التى تمكنه من إدارة الحوار، و«الثقافة» التى تجعل ضيوفه من الرؤساء والملوك يشعرون بقيمة مالديه والحاجة إلى تعميق التفاعل معه والانفتاح عليه أكثر والحرص على اللجوء إليه طلبا للرأى والمشورة، و«رئيسا للتحرير ورئيسا لمجلس الإدارة » يقود الأهرام بــ «سياسة تحرير» تضعها فى مقدمة أهم عشر صحف فى العالم ، ويعى جيدا التحديات الكبرى لإدارة مؤسسة تخضع لضغوط التمويل وحاجات الصناعة وضرورات التحديث التكنولوجي، وينشغل دوما بضمان «الاستقلال المهني» للمؤسسات الإعلامية، ولا يَملُّ من التنبيه إلى أن بناء المصداقية للمؤسسات الإعلامية والفوز بثقة القارئ والمستمع والمشاهد، قد يصبحان أحلاما مستحيلة إذا صار من مهام هذه المؤسسات أن تلتزم بولاء لــ «تنظيم أو حزب أو تكتل» على النحو الذى يقودها ـــ فى المرحلة نفسها أو فى مراحل مختلفة ــ إلى تبرير المتناقضات من القرارات والبرامج والسياسات والخطط والتوجهات، والانخراط فى أنشطة « دعائية » تلحق ضررا بالغا بالطبيعة «الإعلامية» لهذه المؤسسات، وتدفع بالمواطن نحو البحث عن الأخبار والأسرار لدى وسائل الإعلام الأجنبية التى تقترن معالجاتها بأهداف ترتبط دائما بمصالح الدول المالكة لهذه الوسائل، وتنزع إلى تشكيل العقول وصناعة الرأى العام الذى يكون أكثر استعدادا للقبول بالأهداف والمصالح الأجنبية .

الأستاذ خلال زيارته لمبنى الأهرام وهو تحت الإنشاء بشارع الجلاء – «أرشيف الأهرام»

ثالثا: كانت العلاقة القوية التى جمعت الكاتب بالزعيم مدخلا لصعود مكانة «الأهرام» فى الحياة الصحفية والثقافية والسياسية العربية والعالمية. وكان على «الأستاذ» أن يؤكد «الجدارة بالصدارة» ولم يكن أمامه سوى أن يبذل جهدا استثنائيا فى تكوين فريق من أمهر المندوبين والمحررين والمراسلين، من رموز الحرس القديم فى الأهرام، وهؤلاء الذين اصطحبهم معه من «أخبار اليوم» عند انتقاله للأهرام رئيسا للتحرير، وأولئك الذين جاء بهم من خريجى قسم الصحافة بجامعة القاهرة والجامعة الأمريكية، وتأسيس المراكز البحثية والعلمية المتخصصة، واستقطاب خيرة الأدباء والمثقفين المصريين والعرب البارزين، والاعتماد على خبرات مجموعة من أكثر أساتذة الجامعة علما وكفاءة فى علوم الاقتصاد والهندسة والطباعة والجغرافيا والفكر الدينى والفنون والتراث والسياسة والقانون والتاريخ والإعلام، وتجديد المطابع وتدريب العاملين وإرسالهم فى دورات لكبريات الصحف العالمية، والاستعانة بأكثر المتخصصين كفاءة فى مجال الإخراج الصحفى وتكنولوجيا الطباعة والمعلومات، والاهتمام ببناء مبنى جديد يستجيب لخطط التحديث والتجديد الصحفى على النحو الذى يليق بالأهرام وافتتاحه فى العام 1969.

رابعا : من يراجع مابذله «الأستاذ» من جهود استثنائية من أجل استقطاب المتميزين الأكفاء فى المجالات التى تخدم الاحتياج الصحفي، يكتشف قدراته الخاصة فى الوعى بأسرار تقدم المؤسسات الإعلامية ونهضتها وإدراكه لأهمية بناء العلاقات وتعزيز جسور التواصل مع المتميزين أينما عثر عليهم، ويلاحظ الطابع الإنسانى المتقدم فى إدارة هذه العلاقات بكل ما اكتنفها من اتفاق واختلاف. وقد أصبح هؤلاء المتميزون فريق العمل الأكثر اقتناعا بمدرسة هيكل فى الكتابة والإدارة الصحفية ، وما من شك فى أن القرب النفسى الذى جمعه بهم فى الخمسينيات والستينيات هو الذى وحد صفوفهم فى الدفاع عن مدرسته بعد قرار إقالته ومغادرته لمكتبه فى الأهرام أول فبراير 1974 . 

خلال زيارة لسور الصين العظيم – الأستاذ مع الخمينى

وحين دفع الرئيس السادات بعلى أمين ليكون مديرا لتحرير الأهرام فى 3 فبراير 1974 ثم رئيسا للتحرير، ووجه الأخير بمقاومة شرسة لمن سماهم الرئيس السادات «مجموعة الهيكليين» الذين يسيطرون على كل شيء فى المؤسسة ، ويُشكّلون عقبة أمام جهود على أمين من أجل تفريغ الأهرام من محتواها «المهنى والفكري». هؤلاء الهيكليون أنفسهم هم الذين لم يمنعهم قرار إقالة «الأستاذ» وإبعاده عن الأهرام من أن يذهبوا بقيادة الراحل الكبير الأستاذ على حمدى الجمال ــ مدير تحرير الأهرام ــ فى رابطة واحدة وفى يدهم باقات الورد إلى صالة كبار الزوار بمطار القاهرة؛ ليستقبلوا الأستاذ العائد من الخارج فى مشهد لا تخطئه العين ، وهو الذى لم يمض على قرار إبعاده عن الأهرام سوى بضعة شهور، معبرين عن أعلى درجات الوفاء للرجل الذى عملوا معه لعقود، وخبروه داعما قويا فى أداء مهامهم، ومساندا صلبا فى مواجهة بعض أصحاب النفوذ ؛ حتى أصبح المحرر الصحفى بالأهرام عنوانا للفخر والكرامة والاعتداد بالنفس، وصار كل صحفى فى الأهرام يتخيل نفسه حاكما يدير الدولة من داخل الأهرام ؛ وفقا للوصف الذى اعتاد الرئيس السادات أن يردده فى معرض التندر على النفوذ السياسى للأستاذ محمد حسنين هيكل. ومن أجل هذا أدرك على أمين مُبكِّرا أن «القرار السياسي» لايكفى ليكسبه شرعية البقاء فى مؤسسة نجح أبناؤها فى أن يشاركوا قائدهم بناء «مدرسة صحفية» تختلف كثيرا عن تلك التى بناها الأخوان على ومصطفى أمين فى أخبار اليوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى